عند منتصف إحدى الليالي الباردة في شتاء عام 1855 تساقط الثلج بهدوء فوق مدينة ديفون الانجليزية والقرى والبلدات المحيطة بها. كان الناس يغطون في نوم عميق داخل منازلهم وأكواخهم الدافئة فيما كانت الشوارع والطرقات في الخارج تكتسي بطبقة بيضاء ناعمة. طبعا لم يكن منظر الثلج شيئا عجيبا لسكان تلك الأصقاع فهم اعتادوا على رؤيته طوال الشتاء، لكن الذي أثار دهشتهم وخوفهم في الصباح هو رؤية آثار حوافر غامضة تطرز صفحة ذلك الكساء الأبيض الصقيل الذي غطى ارض مدينتهم.
لكن ما العجيب والمدهش في ذلك؟ ربما تكون آثار حوافر خيول بعض المسافرين ، أو قد تكون آثار أقدام بعض الحيوانات المتسكعة في الشوارع أثناء الليل .. هكذا تسأل بسخرية بعض من سمعوا بقصة تلك الخطوات المجهولة، لكن سخريتهم سرعان ما انقلبت إلى دهشة حين علموا بأن آثار الحوافر الغامضة مضت عبر شوارع مدينة ديفون والأراضي المجاورة لها لمسافة 100 ميل تقريبا بمسار واحد مستقيم، ليس هذا فحسب، لكن تلك الخطوات العجيبة لم يكن يوقفها أي شيء، فحين كان احد المنازل يعترض طريقها فأن صاحب تلك الخطوات لم يكن يستدير حول المنزل وإنما كان ببساطة يمشي على الجدران والسقف عبورا إلى الجهة الأخرى؟!، أحيانا كانت تصادفه بعض الحدائق والمزارع المحاطة بسياج عالي يستحيل على أي مخلوق عبورها والدخول إليها، لكن الخطوات المجهولة كانت تجتازها بسهولة مما أثار تعجب السكان وجعلهم يؤمنون بأن صاحب تلك الخطى الغامضة لديه جناحان حتما أو وسيلة ما للطيران. الأدهى من ذلك كله هو أن الخطوات اختفت عند ضفاف نهر ايكسي البالغ عرضه ميلان لتظهر مرة أخرى في النقطة التي تقع بالضبط على الضفة المقابلة من النهر كأنما سار صاحب الخطوات على صفحة الماء!.
آثار الحوافر كانت بحد ذاتها غريبة لم يرى الناس لها مثيلا في السابق، كانت على شكل حرف (U ) الانجليزي، بطول 4 انشات وعرض 2.5 انش وتفصل بين كل خطوة وأخرى 8 انشات. حتى أكثر الصيادين ومقتفي الأثر خبرة وحنكة لم يستطيعوا التعرف على نوع الحيوان الذي يمكن أن تعود له تلك الآثار
سرعان ما أخذت الشائعات والقصص المخيفة تنتشر بسرعة البرق في ديفون، عدة أشخاص زعموا أنهم شاهدوا مخلوقا غريبا يتجول أثناء الليل عبر طرقات المدينة، و آمن الكثير من السكان بأن المخلوق صاحب الخطوات الغامضة لم يكن سوى الشيطان نفسه جاء متجولا في الليل باحثا عن الأرواح الخاطئة التي ازدادت باضطراد في تلك الأصقاع نتيجة لابتعاد الناس عن الله وانغماسهم في الخطيئة (–هذا في القرن التاسع عشر فماذا سيفعل الشيطان اليوم يا ترى؟
في الأيام القليلة التالية عمت حالة من الهستيريا الجماعية في المناطق التي ظهرت فيها الخطوات الغامضة، بعض السكان شكلوا مجموعات مسلحة صغيرة راحت تقتفي اثر الخطوات المجهولة على أمل الإمساك بالمخلوق الذي يقف ورائها، فيما وقف آخرون يحرسون الطرقات والشوارع في الليل خشية أن يهاجمهم الشيطان على حين غرة. أما غالبية السكان فقد التزموا بيوتهم أثناء الليل ولم يغادروها لأي سبب كان
الخوف والهلع التي سببته الخطوات الغامضة لم يقتصر على ديفون وما يجاورها بل امتد ليشمل اغلب مناطق انجلترا، خصوصا بعد نشر الصحافة لتقارير إخبارية مفصلة حول الموضوع في عدد من الجرائد الرصينة مثل التايمز والأخبار اللندنية
في الحقيقة لا يعلم احد على وجه الدقة ما هو مصدر الخطوات الغامضة، لكن بمرور الأيام والسنين ظهرت العديد من الفرضيات والنظريات التي حاولت تفسير اللغز بشكل منطقي وعقلاني. أول الفرضيات ألقت باللوم على الحيوانات مثل الغرير وبعض أنواع القوارض. فيما زعمت إحدى الجرائد الصادرة في ذلك الزمان في تقرير نشرته آنذاك أن الخطوات الغامضة تعود في الحقيقة إلى زوج من حيوانات الكنغر التي فرت من مزرعة خاصة قرب ديفون لكن الجريدة لم تقدم ما يدعم صحة مزاعمها كما لم يثبت أبدا فرار أو مشاهدة أي كنغر في المنطقة. وتكمن المشكلة الرئيسية في فرضية الحيوانات في عدم تماثل آثار حوافر وطريقة حركة أي حيوان مع آثار تلك الإقدام التي خطت تلك الخطى المجهولة في ديفون. أضف إلى ذلك فأنه من غير المفهوم أن يسير حيوان ما بخط مستقيم زهاء مئة ميل خلال ليلة واحدة قافزا فوق الجدران العالية وسطوح المنازل التي تصادفه وتعترض سبيله خلال مسيره، هذا إلا إذا كان ذلك الحيوان يمتلك القدرة على الطيران كأن يكون طائرا، لكن هذا سيزيد تعقيد اللغز ولا يحله لأن من غير المنطقي أن يستمر طائر بالمشي على الأرض لمسافة 100 ميل.
هناك فرضية أخرى هي الأكثر قبولا رغم أنها ظهرت بعد عدة عقود من حادثة ديفون، وتزعم تلك الفرضية ان بالونا للتجارب افلت عن طريق الخطأ من احد المراصد القريبة من ديفون في نفس الليلة التي ظهرت خلالها الخطوات الغامضة، وان هذا البالون كان مربوطا بسلسلتين طويلتين سحبهما خلفه عند جنوحه فتركتا آثارا على الثلج أثناء مرورهما فوقه وظن الناس أن آثار السلسلتين هي خطى حيوان أو مخلوق غامض، وهذا يفسر أيضا عبور الخطوات الغامضة للجدران العالية ولأسطح المنازل والأنهر والمسطحات المائية.
فرضية البالون جاءت بعد سنوات طويلة على حادثة ديفون وعلى لسان رجل زعم أن جده كان يعمل آنذاك في المرصد الجوي الذي افلت منه البالون وانه قد تم التستر على الحادثة آنذاك لأن البالون كان قد تسبب خلال مسيره ببعض الخسائر في ممتلكات الناس فخاف المرصد من أن يطالب هؤلاء بالتعويض وتكتم على الأمر
لكن مشكلة فرضية البالون تكمن في عدم وجود إثبات رسمي يؤكد إفلات احد البالونات في ليلة الحادثة كما أن عدم تعلق سلاسل البالون المتدلية بأي شيء رغم مرورها بالعديد من المنازل والأسوار والصخور والأشجار لمسافة مئة ميل وعدم مشاهدة البالون وسلاسله أو حتى سماع أصواتهما من قبل أي شخص خلال هذه المسافة الطويلة تبديان أمرا غير منطقيا تماما، ثم كيف سار البالون على هذا الارتفاع الثابت والمستقيم لمسافة مئة ميل؟
هناك طبعا فرضية أخرى آمن وصدق بها معظم الناس آنذاك وهي تعتقد أن هذه الخطوات تعود فعلا للشيطان أو إلى احد المخلوقات الخرافية التي لم يثبت وجودها أبدا مثل جاك الوثاب. لكن فرضية المخلوقات الخارقة مرفوضة طبعا من قبل العلماء جملة وتفصيلا.
الخطوات الغامضة ظهرت عدة مرات خلال تاريخ انجلترا قبل وبعد حادثة ديفون، إحدى أقدم الإشارات إلى هذه الظاهرة وردت في مخطوطة قديمة تحدثت عن ظهور مثل هذه الخطوات بعد عاصفة رعدية عنيفة في عام 1205 ميلادية. كما أن دول أخرى غير انجلترا عرفت أيضا ظهور مثل هذه الخطوات كما حدث في اسكتلندا وبولندا خلال فترات متباينة ونسبت الظاهرة أيضا إلى مخلوقات خرافية. المثير في الموضوع هو أن خطوات غامضة أخرى ظهرت في ديفون مرة أخرى في 12 آذار / مارس عام 2009 وأيضا من دون تتوفر أي تفسير مقنع لسبب ظهورها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق