كثيرا ما كانت قصص الحب لا يعرفها المتلقي سوى عبر شاشات التلفزيون أو الروايات الغرامية..وكثيرا ما قيل إن الحب العظيم الذي يُولد في المحن يبقى أسطورة صنعها شكسبير في مسرحية 'روميو وجولييت' وتغنى بها جيمس كاميران في فيلم 'تيتانيك'..لكن قصة الحب التي جمعت بين 'ردفورد' و'كاساوا' وما نتج عنها من إنقاذ لحياة العشرات من نساء ورجال وأطفال بورما الجريحة..تبقى من أجمل الأحداث الواقعية التي لا زالت تقدم الدليل على صِدق القلوب في أزمنة القبح.
سنة 1994، وعندما كانت كايتي ردفورد، الطالبة الأمريكية بجامعة فرجينيا ، تفكر في بحث تخرجها الذي سيستأثر بموضوع حقوق الإنسان، أتتها فكرة استبداد العسكر الحاكم في بورما، فقد زارت تايلاند القريبة منها، وسمعت عن حجم الرعب الذي تبثه قوات الجيش البورمي في نفوس ساكنة القرى، حيث دمّرت هذه القوات قرى بأكملها من أجل فسح المجال أمام شركة نفطية أمريكية اسمها 'يونوكال'، لبث أنابيبها النفطية في مناطقهم، وهو ما أدى إلى تشريد الساكنة.
قررت ردفورد أن تجعل من هذا الموضوع مشروع تخرجها، وبقيت تبحث عمن يساعدها في تحقيقه، لتلاقيها الأقدار بكاساوا، ناشط سياسي شاب نذر حياته لمحاربة طغيان العسكر، وسَبَق أن تم سجنه وتعذيبه مرات كثيرة، وقد مكّنه مكان عمله المتواجد بالقرب من وحدات الجيش أن يطّلع عن قرب على الجرائم الفظيعة التي ترتكبها هذه الوحدات بحق السكان، فوافق على مساعدة ردفورد، وهرّبها عبر الحدود إلى بورما، لتشاهد المعاناة بعينها وليس فقط كما سمعتها.
تقرير ردفورد تضمّن سرْد أحداث مؤلمة من قبيل إلقاء الأطفال أحياء في النيران، أو قتل الأب أمام أبناءه، بُغية إجبار سكان القرى على الرحيل عن بيوتهم، حيث قالت ردفورد في تقريرها الذي نَشر جزءً منه كتاب حركات ثورية لستيف كراوتشو وستيف جاكسون:' كان اللاجئون الذين فرّوا فعليا من منازلهم المحروقة، خائفين من التعرض للقتل أو الاغتصاب أو من أخذهم عنوة للقيام بأعمال قسرية، كانوا ينظرون إلى عيني مباشرة ويقولون: استخدمي حريتك لحماية حريتنا عندما تعودين إلى بلادك'.
عادت الطالبة الأمريكية إلى جامعتها لتقديم بحثها، وأخذت قرابة السنة لكتابته والاستقصاء فيه، واستطاعت أن تحصل على نقطة مشرفة جدا في نهاية السنة، إلا أن طموحها لم يتوقف عند تحقيق مَجْد أكاديمي، بل أرادت مقاضاة شركة 'يونوكال' التي كانت على علم مسبق بما يقع لساكنة بورما جراء أعمالها النفطية ولم تكن راغبة أبدا في التدخل لثني الجيش عن تقتيل الساكنة، إلا أن الأستاذ المشرف على بحث كايتي، أخبر هذه الأخيرة، عن استحالة مقاضاة هذه الشركة العملاقة، وأن المحاولة في هذا المسعى لن تكون سوى مضيعة للوقت.
كان هدف ردفورد أن تتم مقاضاة الشركة الأمريكية بتهمة ارتباطها بجرائم دولية تُرتكب بحق أفراد خارج التراب الأمريكي، وأن يتم تحريك دعوى تُعرف ب' دعوى التعويضات الخارجية'، لذلك تحدّت أستاذها، ونسّقت مع كاساوا، فأسسا جمعية صغيرة اسمها 'أورث رايتس إنترناشيونال'(earth rights International) وقامت هذه الجمعية برفع دعوى قضائية باسم 15 فردا من بورما ضد 'يونوكال' بتهمة المساهمة في تشريدهم، وطوال مدة من الزمن، لم تقبل أي محكمة أمريكية رفع هذه الدعوى التي لم يُعمل بها منذ وقت طويل، إلى أن قبلت محكمة فدرالية بلوس أنجلوس القضية، وبدأ الإعلام الأمريكي يستأثر بما يحدث، لينتشر الخبر على أوسع مدى.
سنوات طويلة بعد ذلك، وبالضبط في 2004، ولمّا اقتنعت شركة 'يونوكال' أنها في طريقها لخسارة كل دعاوى الاستئناف التي أقامتها، قررت الاعتذار لأولئك القرويين، وتعويضهم ماليا عن منازلهم، هذا الاعتذار كان بمثابة اعتراف صريح من الشركة الأمريكية بمشاركتها الجرم هناك، وكان حدثا قويا للغاية، حيث انتقلت وسائل الإعلام الأمريكية إلى بورما والتقت ساكنتها ممن ابتهجوا بنجاح ردفورد وكاساوا في إيصال قضيتهم إلى أبعد مدى، حيث تم التعريف كذلك بجرائم الجيش البورمي في حقهم، وهي الجرائم التي كان صداها لا يتجاوز تلك المنطقة من الكرة الأرضية.
في الطريق الطويلة المؤدية لمحاكمة شركة يونوكال، تزوجت ردفورد بكاساوا بعد أن تمكّن الحب من قلبيهما طوال لحظات نقل المعاناة، ليُتوجا مساراً امتد لأشهر طويلة من العمل المتواصل تحدّا فيه كل الصعاب وآمنا بقضيتهما لأبعد مدى، بل إنهما وبعد زواجهما، قررا أن يجعلا من جمعيتهما الصغيرة واحدة من أكبر المنظمات غير الحكومية بالعالم، وهو ما تحقق، حيث تُعتبر 'أورث رايتس إنترناشيونال'، أكبر منظمة تُعنى بالكشف عن انتهاكات الشركات الدولية لحقوق الإنسان، وتضع كشعار لها ' قوة القانون والشعب في حماية حقوق الإنسان والبيئة'، فقوة حب ردفورد وكاساوا لبعضهما، وللحقيقة، ولحقوق الإنسان، جعلت من منظمتهما لا تكشف فقط عن معاناة ساكنة بورما، بل أن تُجبر كذلك شركات عالمية على احترام حقوق شعوب الكثير من الدول، حتى ولو كان الجامع بين أنظمة هذه الدول وتلك الشركات، علاقات حب .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق