الأحد، 1 يونيو 2014

عرافة ( مارتينيك ) .. كلتا الطفلتين أصبحت ملكة !


لقد مضي زمن الأنبياء ، ليس فقط لأن الإنسانية وصلت إلي مرحلة تبخرت فيها كل الأوهام إلي حد يخجل معه أيُّ إنسان عاقل أن يدعي النبوة ، و لكن ، أيضاً ، لأن تلك الأزمنة الخوالي كانت مأهولة بكائنات لا تزال في طور الطفولة الفكرية، لم تبرأ بعد من أمراض البهيمية الأولي ، لذلك ، استطاع بعض الحاذقين في صناعة الأساطير التغلغل في عقولهم حتي القشرة الأكثر سُمْكاً ، و بكل سهولة ! مضي زمن الأنبياء ، هذا صحيح ، لكن ، صحيح أيضاً أن أشخاصاً خاصين ، و حتي وقت غير بعيد ، كان بمقدورهم إبداع الدهشة ، إذ استطاعوا أن يخترقوا ، بعيون غامضة ، حجب الغيب ، و يلتقطون مما وراءها بعض النبوءات التي تحققت فعلاً ، و بنفس التفاصيل التي اقترحوها ، الفرنسيّ " نوستراداموس " ما زال أشهر هؤلاء ، لكن ، كان هناك علي الدوام آخرون غيره لا يقلون عنه غموصاً ، و لا يثور الضوء في أسمائهم للأسف ، كما كان هناك نبوءة حاسمة تفوقت علي كل نبوءاته شكلاً و حسماً و حدة و مضموناً ، إنها نبوءة لعرافة مجهولة وقعت أحداثها في جزيرة " مارتينيك " ، إحدي جزر أرخبيل " الأنتيل " ، شرق " البحر الكاريبي " إلي الشمال من " ترينيداد " و " توباجو " ، و هي واحدة من الأقاليم الستة و العشرين التي تتكون منها الأراضي الفرنسية ! باختصار شديد ، في منتصف القرن الثامن عشر ، و في أحد صباحات هذه الجزيرة الملقبة بجزيرة الزهور و الطبيعة الساحرة ، كان هناك طفلتان تسألان الورود عن عطورها ، طفلتان بعيون براقة و حبلي بأحلام مؤجلة ، تنتمي كلتاهما إلي أبٍ من كبار موظفي الإدارة الفرنسية في تلك الجزيرة ، و كانتا ابنتي خالة في نفس الوقت ، صادفتهما في أحد المنعطفات عرَّافة ترتدي ثياباً رثة ، فطلبت منها " جوزفين " ، أقل الطفلتين حياءاً ، أن تقرأ لهما طالعهما ، و هذا هو ما قد حدث ! الغريب ، أن نظرةً عابرةً من عيني تلك العرافة في كف " جوزفين " كانت كافية لاستدعاء دهشة العرَّافة ، ثم قالت لها ، و عيناها تترنحان علي حواف غامضة : - ستتزوجين قريباً ، و لن يكون زواجُك سعيداً ، و تصبحين أرملة ، و بعدها تكونين ملكة ، و تقضين سنوات سعيدة ، ثم تموتين بائسة ، حزينة ، وحيدة ، في مستشفى ! الأغرب ، أن تعبير الدهشة لم يفارق وجه العرافة و هي تنظر في كف الطفلة الأخري الصغير ، و قالت لها في لهجة تنم عن احترام شديد : - ستصبحين أنت أيضاً ملكة ! و أمام إسراف تلك العرافة في الكرم ، اعتقدت الطفلتان أن المرأة محتالة أو مجنونة ، لذلك ، طارت ضحكاتهما في هواء الجزيرة صاخبة و ناعمة و محرضة .. و جرت مياه كثيرة في البحر الكاريبي ، و كبرت أشجار في " مارتينيك " و سقطت أشجار ، و كبرت الطفلتان ، و سافرت " جوزفين " إلي " باريس " ، و هناك ، أصبحت ، في أيام معدودة ، كما يليق بجميلة كلاسيكية ، واحدةً من أهم سيدات المجتمع الراقي ، و هناك أيضاً ، تزوجت من الكونت " ألكسندر فيكونت دي بوارهرنيه " ، وعاشت معه سنين قليلة حتي سقط رأسه ، أثناء الثورة الفرنسية ، كالكثيرين من نبلاء " فرنسا " ، تحت المقصلة .. هي أيضاً نجت من ذلك المصير بمعجزة ، حيث أودعت السجن في انتظار تنفيذ حكم بإعدامها ، و فجأة ، سقط رأس رئيس لجنة الأمن العام ، "روبسبير" ، أيضاً ، تحت المقصلة ، كانت الثورة المضادة قد امتصت الهزيمة و استعادت اتزانها ! عقب خروجها من السجن ، تعرفت " جوزفين " علي الشاب " بونابرت "، و تزوجا .. بعد أن ارتقي زوجها عرش " فرنسا " ، بل أصبح أهم رجل في " أوروبا " من أقصاها إلي أقصاها ، بل العالم الكبير ، أصبحت " جوزفين " السيدة الأولي في كل مكان ، ما عدا " انجلترا " ، و بقية القصة مشهورة ، لقد خانته مع ضابط شاب ، و طلقها ، و عاشت وحيدة في " قصر مالميزون " و تزوج هو ، و عصفت بها الأمراض من كل جانب ، و دخلت المستشفى ، و احتضرت وحيدة ، و كانت آخر كلمة نطقت بها ، و أغلق الموت بعدها ، و للأبد ، في حنجرتها بوابات الكلام : " نابليون " ، و امتصها الظلام ! و ماذا عن الملكة الأخرى ؟! كانت ترتيبات سفرها للحاق بابنة خالتها " جوزفين " في " باريس " قد اكتملت بعد شهور من رحيل الأخيرة ، و كان أبوها قد استقر عزمه علي إرسالها إلي العاصمة لدراسة اللاهوت ، وحظيت بوداع حار في أحد مرافئ " فور دى فرانس "، عاصمة الجزيرة ، و أراقت العائلة الكثير من الدموع لحظة اختفاء السفينة التي تستقلها في الأفق البعيد ، ولكن ، و لا أدري إن كان لحسن حظ الفتاة أم لأكبر خيباتها علي الإطلاق ، أسر القراصنة الجزائريِّون ، فيما كانوا يعتبرونه جهاداً ، تلك السفينة ، و كانت فتاة جزيرة " مارتينيك " أثمن ما في الغنيمة ! و ربما كان جمالها اللافت هو ما جعل القراصنة يقدمونها هدية إلي " باى تونس " ، تودداً إليه ، و هو نفس السبب الذي جعل " حاكم تونس " بدوره ، يرسل الفتاة هدية إلي السلطان العثماني " عبد الحميد الأول " ، الذي اتخذها زوجة من زوجاته ، و اختار لها اسم السلطانة " نقسن " ، أو " نقش ديل " ، و تعني في اللغة التركية " جميلة " ، و هي أم السلطان " محمود الثاني " ، السلطان " 29 " من سلاطين تلك السلالة ! و أثرها يفوح كالعطر الفرنسي الرنين في شخصية ابنها السلطان ، إذ كان يميل إلي الثقافة الغربية أكثر من ثقافة الشرق ، و كان أول من ارتدي الزي الأوربيَّ من سلاطين " بني عثمان " ، و لم يكتف بذلك ، إنما جعله الزيَّ الرسميَّ لموظفي دولته ، و أبطل " الحريم " ، و أوقع بالانكشارية ، و كان شاعراً يوقع قصائده باسم " عدلي " ، كأن الشعر لا يليق بالسلاطين ، ربما ، لكل ذلك ، لقبه المتزمتون في عصره بـ " السلطان الكافر " ! و بفضل صلة القرابة بين أمه و " جوزفين " كانت علاقته بـ " نابليون بونابرت " جيدة حتي احتل الفرنسيون " الجزائر " .. الشاعر الفرنسي " ألفونس دو لامارتين " ، مبدع قصيدة " البحيرة " ، بوصفه وزيراً لخارجية بلاده ، لفترة قصيرة ، في تلك الفترة ، نفى هذه القصة ، و زعم أن أم السلطان " محمود " شركسية لا فرنسية ، ولكن مجرد نظرة عابرة في وجه السلطان " محمود الثاني " الذي وصل إلينا مثبتاً في لحظة مصورة ، تؤكد صحة القصة ، فهو يحمل ملامح وجوه الفرنسيين بشكل مروع ، الإناث الفرنسيات بشكل أعمق ، و " مدام دي بومبادور " و " ماري انطوانيت " تحديداً ، لذلك ، لابد أن الشاعر " لامارتين " قال ما قاله لسبب ما ، بمعني أكثر دقة ، لقد أراد أن يخفي في الظل سراً ما قد اطلع عليه حتماً خلال زياراته العديدة للسلطان " محمود " ، قدَّر هو ، و هو تقدير خاطئ نجم بالتأكيد عن تحديقه النظر ، ككل غربيٍّ ، في كل ما ينتمي إلي الاسلام بعيون الريبة ، قدَّر ، أن فضحه في ذلك الوقت قد يلحق الضرر بمواطنته أو ابنها ، علي أية حال ، لقد اشتعل ذلك السر فيما بعد مثل فضيحة ! لقد احتفظت السلطانة الوالدة " نقسن " ، زوجة خليفة المسلمين ثم أم خليفة المسلمين ، بمسيحيتها حتي النهاية ، و كان الإنجيل لا يفارق غرفتها حتي النهاية ، سراً بالطبع ، و كانت آخرَ رغبةٍ لها توسلت إلي ابنها أن يعمل علي تحقيقها ، و هي تحتضر ، هي أن يحضر لها قساً كاثوليكياً لتعترف أمامه ، و هذا ما حدث ، سراً ، ثم سقطت في الظلمة الأبدية .. أياً كان الأمر ، لقد تحققت نبوءة عرَّافة " مارتينيك " بكل تفاصيلها ، و أكدت عرافة القرن الثامن عشر تلك ، أن في الطبيعة من حولنا أشياءَ غامضة لا تزال بحاجة إلي تفسير ، و أن هناك ، في هذا العالم ، منظومة من الأسرار المغلقة لا أعتقد أن أحداً يستطيع في الوقت الحالي ، علي الأقل ، فضحها .















ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق